تثير التحركات الروسية الأخيرة في إفريقيا وخاصة بعد انعقاد مؤتمر الشراكة الروسي الإفريقي في سوتشي ، العديد من التساؤلات حول مدى إمكانية تحول موقف موسكو من قضية الصحراء المغربية. فرغم اعتماد روسيا منذ سنوات نهجًا متوازنًا يحافظ على مصالحها بين المغرب والجزائر، إلا أن ملامح هذا التوازن بدأت تكتسب بعدًا جديدًا عقب تغييرات دبلوماسية رمزية، مثل تجنب موسكو استدعاء جبهة البوليساريو لحضور المنتدى، ما اعتبره بعض المحللين بادرة تجاه المغرب، وسط سياق إقليمي يتسم بتعقيد التحالفات وضغوط المنافسة الدولية على إفريقيا.
لم تمر خطوة روسيا بعدم استدعاء جبهة البوليساريو مرور الكرام حيث اعتبرت بادرة إيجابية تجاه قضية الصحراء المغربية وإشارة إلى استعداد موسكو للاقتراب أكثر من الموقف المغربي. فخلال مؤتمر الشراكة الروسي الإفريقي، الذي شهد حضورًا واسعًا لممثلي الدول الإفريقية، اختارت روسيا التركيز على القضايا الاقتصادية والأمنية الكبرى دون التطرق لقضايا إقليمية حساسة قد تثير انقسامًا مثل قضية الصحراء، ويُنظر إلى عدم دعوة البوليساريو كرسالة ضمنية تدل على أن موسكو تُفضل عدم إظهار انحياز واضح لجانب واحد، خاصة في ظل جهودها لتطوير علاقاتها مع المغرب الذي يعد شريكًا اقتصاديًا ذا أهمية في إفريقيا.
إن موسكو تدرك أن الحفاظ على علاقاتها مع الجزائر، حليفتها العسكرية الأساسية في المنطقة، ضرورة استراتيجية، خاصة أن الجزائر تُعتبر من أكبر مستوردي الأسلحة الروسية. تشير الإحصائيات إلى أن ما يقارب 67% من واردات الجزائر من الأسلحة تأتي من روسيا وفقًا لتقارير “معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام” لعام 2023. هذا التحالف العسكري الراسخ يعطي الجزائر نفوذًا لا يمكن تجاهله، ويدفع روسيا إلى توخي الحذر في أي خطوة تتعلق بقضايا المغرب الحساسة.
ومع ذلك، بدأ التعاون الاقتصادي بين روسيا والمغرب يكتسب زخمًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة، ما يجعل من الرباط شريكًا جذابًا لموسكو، خصوصًا مع تنامي الاستثمارات الروسية في مجالات الطاقة والفلاحة في المغرب. فقد ارتفعت الصادرات الروسية إلى المغرب بنحو 70%، مما يعكس تزايد المصالح المشتركة بين البلدين، والتي قد تضع روسيا أمام خيار استراتيجي يستدعي إعادة النظر في سياستها الحيادية إزاء الصحراء المغربية.
تعتبر روسيا اليوم أكثر انفتاحًا على تعزيز حضورها في إفريقيا، في ظل تنامي المنافسة العالمية بين القوى الكبرى مثل الصين والولايات المتحدة، وهذا ما يفسر حضور روسيا الواسع في القارة ودعمها للمشاريع التنموية الكبرى في عدة بلدان إفريقية. وتفيد الإحصائيات بأن التبادل التجاري بين روسيا وإفريقيا وصل إلى 23 مليار دولار سنة 2024 ما يبرز أهمية إفريقيا كسوق استراتيجية لموسكو، غير أن هذه المصالح المتنامية تدفع روسيا إلى اتباع سياسة الحياد فيما يتعلق بقضية الصحراء المغربية. فعلى الرغم من التقدم المحقق في علاقاتها الاقتصادية مع المغرب، تدرك روسيا أن اتخاذ موقف منحاز قد يعرض مكتسباتها مع الجزائر للخطر. ومن هنا، يبدو أن موسكو تعتمد نهجًا أشبه بالدبلوماسية الصامتة، تتجنب من خلاله إثارة توترات قد تُبعدها عن الحليفين، مستندة إلى قاعدة التوازن بين المصالح.
وبقدر ما تظل روسيا ملتزمة بسياستها الحذرة، بقدر ما تلوح بوادر قد تدفعها إلى مراجعة هذا الموقف في المستقبل. فالتغيرات الإقليمية والدولية المستمرة تفرض ضغوطًا على القوى الكبرى، ما قد يجعل الحياد غير مجدٍ على المدى الطويل. وإذا ما استمر المغرب في تعزيز تعاونه الاقتصادي مع روسيا، فقد تجد موسكو نفسها مضطرة لاتخاذ خطوات أكثر وضوحًا تعكس تقاربًا أكبر مع الرباط، خاصة إذا ما تزايدت الضغوط الإفريقية والدولية لتبني مواقف داعمة للتسوية العادلة للنزاعات الإقليمية.
فمن الواضح أن المغرب يسعى إلى استغلال نافذة الفرص التي تتيحها التقلبات الدولية، لتعزيز شراكاته مع القوى الكبرى وضمنها روسيا. وقد يشكل مؤتمر الشراكة الروسي الإفريقي نقطة انطلاق جديدة في هذا المسار، إذ يطمح المغرب إلى استمالة موسكو لدعمه في ملف الصحراء عبر توسيع الشراكة الاقتصادية والمشاريع الاستثمارية المشتركة. وتبقى الآمال قائمة على أن تقود هذه الشراكة المتزايدة إلى موقف روسي داعم للمغرب في المنظمات الدولية، أو على الأقل التزام موقف أكثر ميلًا للرباط في مواجهة التحركات الجزائرية.
وفي الأخير رغم أن روسيا لا تزال متحفظة بشأن قضية الصحراء المغربية، إلا أن تجاهلها لاستدعاء جبهة البوليساريو يشير إلى نضوج في رؤيتها تجاه النزاع، وترجيح للتعاون مع الدول ذات الأهمية الاستراتيجية الأكبر، كالرباط. ومع استمرار المغرب في تدعيم علاقاته الاقتصادية مع موسكو، يصبح من الممكن أن نشهد تحولات مستقبلية في الموقف الروسي، تقترب أكثر من دعم مقترح الحكم الذاتي، لاسيما إذا ما توافرت ظروف دولية وإقليمية تسهم في تسريع هذا التحول.