فيلم «القاتلة» صرخة فى وجه الظلم - الآن نيوز

0 تعليق ارسل طباعة

من أجمل الأفلام التى عرضها مهرجان القاهرة السينمائى الدولى فى دورته الحالية؛ الفيلم اليونانى: murderess أو القاتلة. تدور الأحداث فى جزيرة نائية فى اليونان مطلع القرن الماضى، الجزيرة جبلية، طبيعتها قاسية صلدة، ترتفع كثيرًا فوق مستوى سطح البحر حتى تكاد تلامس السحب السوداء والرمادية، التى تغطى سماءها وتحجب زرقة السماء أو أشعة الشمس الذهبية، داخل هذا الإطار المعزول والموحش، يعيش مجتمع فقير، ماديًا وعاطفيًا، ترزخ الأرواح تحت عبء التقاليد والعوز، فتلوح بالصمت، وعندما تنوء بحملها تنفجر وتوجه عنفها وغضبها للأضعف.

تبدأ مشاهد الفيلم وتنتهى مع هادولا. الأرملة العجوز التى تعيش مع بناتها الثلاث وتعمل قابلة، تساعد النساء عند الولادة، تتحرك هادولا، التى يعنى اسمها: الحنونة، طوال الفيلم بملامح وجه صارمة وحزينة وجسد نحيف وعصا تستند عليها وملابس لا تعرف غير اللون الأسود فى طرقات القرية الضيقة والوعرة والمحاصرة بالصخور الجبلية، يضيق الخناق على هادولا وهى المحاصرة بين ألم وصراخ النساء أثناء الولادة، وتجهم الأزواج عند معرفتهم بأن المولودة ابنة،

ففى مجتمع فقير لا تعمل فيه النساء خارج المنزل، وفى ظل تقاليد الزواج التى تفرض على والد الفتاة توفير مهر لها يكلفه الكثير، ويضطر معه الآباء والأشقاء إلى مغادرة القرية بحثًا عن فرصة عمل من أجل توفير المهر أو إعالة البنات والشقيقات، يصبح كل ميلاد لبنت عبئًا وهمًا للزوج أو الأب.

ونتيجة لهذا المناخ الذى يعانى فيه الجميع من الحصار والإذلال والضيق، تبدأ هادولا تحت تأثير الضغط النفسى ومطاردة شبح والدتها وذكريات القهر القاسية، حيث تتوارث النساء القهر من أمهاتهن. 

تبدأ فى قتل المولودات، وبتوالى كتم أنفاس الصغيرات، يصبح فعل القتل الذى تمارسه وسيلة لتحرير الفتيات الصغيرات من مصيرهن الاجتماعى البائس، وتقرر أن تظلل شبكة الموت الفتيات الأكبر سنًا، فتُغرق فتاتين فى بئر القرية وتترك فتاة لتسقط من جرف، وبتكرار الأمر، وتكرار صدفة وجودها فى مكان قتل الفتيات، يتحول المجتمع ضد هادولا ويبدأ فى مطاردتها، فترتبك بطلة الفيلم وتختلط عليها الأمور وتدخل فى صراع نفسى كبير، وهى التى كان يقينها يدفعها لمساعدة الفتيات وتوفير سبيل لخلاصهن.

بأداء رصين ومتميز للممثلة كاريوفيليا كارابيتى، تنقل لنا هواجس وحزن هذه الأرملة، فتتعاطف معها ولا ندين جرائمها، بل ندين المجتمع الذى يدفعها لهذه الرحمة القاتلة، التى تضعها وجهًا لوجه مع القانون. فتهجر منزلها وتلجأ إلى الطبيعة. ورغم حيرتها وترددها الأخلاقى وحاجتها لعلامات من القديسين أن ما تفعله بركة وليس دنسًا، وأنها تفعل الشىء الصحيح، فإن المجتمع يحاكمها ويلاحقها فى كل مكان. لتأتى النهاية كفداء. 

يستند الفيلم إلى الرواية الكلاسيكية «القاتلة» للكاتب اليونانى ألكسندر باباديامانتيس، الذى ولد عام ١٨٥١ على جزيرة سكياثوس، وهى الجزيرة التى تدور عليها أحداث الفيلم، وقد كان والده كاهنًا. انتقل إلى أثينا فى شبابه لإكمال دراسته الثانوية، والتحق بكلية الفلسفة بجامعة أثينا، لكنه لم يكمل دراسته قط. حدث هذا لأنه كان يعانى صعوبات اقتصادية، واضطر إلى العثور على وظيفة لكسب لقمة العيش. كى يرعى شقيقاته الثلاث، وعاد إلى جزيرته الأصلية حيث أمضى بقية حياته دون زواج، وكان معروفًا بأنه منعزل، وكان همه الوحيد مراقبة حياة الفقراء والشخصيات الروحية والكتابة عنها روائيًا وقصصيًا فى الصحف والمجلات، فضلًا عن التراتيل فى الكنيسة: كان يشار إليه باسم «راهب الشعب». توفى بسبب الالتهاب الرئوى عام ١٩١١. ورواية القاتلة رواية قصيرة نشرها عام ١٩٠٣ وتعد من أهم أعمال باباديمانتيس التى تعبر عن عمق شعوره الإنسانى.. فتم تصوير شخصية القاتلة بتعاطف عميق ودون إدانة. «عندما كانت طفلة، كانت تخدم والديها. وبمجرد زواجها، أصبحت عبدة لزوجها.. وعندما أنجبت أطفالًا، خدمتهم، وعندما أنجبوا أطفالًا، أصبحت عبدة لهم». حتى اسمها يروى قصة النساء فى الريف اليونانى فى القرن التاسع عشر: لقد نسى اسمها عند الولادة، هادولا، «الحنونة»، تمامًا؛ وهى الآن «فراجكويانو»، أى أرملة يانيس فراجكوس، حيث يختزل وجودها بالكامل فى هذه الصفة «فتأتى نهاية هادولا غرقًا فى البحر أثناء محاولتها الفرار من شرطيين كانا يتعقبانها»، يقول باباديامانتيس، فقد لاقت «الموت فى منتصف الطريق بين العدالة الإلهية والعدالة البشرية».

وقد عبر الفيلم عن روح وأجواء الرواية واستطاعت مخرجة الفيلم، إيفا ناثينا، أن تنقلنا لهذه العوالم الإنسانية التى تتجسد فيها مأساة الإنسان وجعلت منها تجديدًا لمآسى الأساطير اليونانية.

وصنعت من هادولا شخصية أسطورية رمزية لكل المجتمعات الظالمة للنساء، وساعدها كونها فى الأساس مصممة مناظر على نقل هذه البيئة الجبلية القاسية للشاشة بواقعية بارعة، حيث سيطر اللونان الأسود والرمادى على الشاشة بما يقطع الأمل فى خلاص لهذه المأساة، وساعد شريط الصوت واللحن الأوبرالى الذى أدته المخرجة مستفيدة من كونها مغنية أوبرا فى تكثيف حالة الحزن والضياع التى تعيشها بطلة الفيلم.

كانت إيفا قد قرأت الرواية لأول مرة عندما كانت تبلغ من العمر ١٦ عامًا كجزء من المنهج الدراسى، وشعرت بتعاطف غريب تجاه بطلة الرواية، وقد بدأت العمل على الفيلم عام ٢٠٢١، وتم بناء ديكور كامل فى منطقة كريت باليونان لتصوير الفيلم هناك. واستغرق تصوير الفيلم شهرًا، لتخرج هذه الصرخة الإنسانية فى وجه الظلم.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق