اليوم، 1 نوفمبر 2024، يوافق ذكرى فتح أبواب واحد من أبرز الصروح الأثرية والتاريخية للجمهور، مما يتيح للجميع فرصة استكشاف كنز ثقافي متنوع عبر العصور.
يُعتبر المتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية من أكبر المتاحف في مصر وأقدم مبنى مخصص لحفظ وعرض الآثار، وهو المتحف الوحيد المتخصص في العصرين اليوناني والروماني.
صدر قرار إنشاء المتحف في 1 يونيو 1892، وتم افتتاحه بشكل تجريبي على يد الخديوي عباس حلمي الثاني في 17 أكتوبر من نفس العام، ليُفتتح رسميًا للجمهور في 1 نوفمبر.
للمرة الأولى "الدستور" تنشر خطابات بوتي وكواليس إنشاء المتحف اليوناني الروماني
وتنشر “الدستور” للمرة الأولى خطابات "جوزيبي بوتي"، مؤسس المتحف اليوناني الروماني، التي تروي كواليس بداية رحلته من إيطاليا إلى الإسكندرية وقراره بإنشاء المتحف على أرض الإسكندرية، ويظل هذا المتحف خالدًا بعد مرور أكثر من 132 عامًا.
زيارة أحفاد "بوتي" إلى الإسكندرية 2023
لم تكن "كلارا" و"باولا"، أحفاد بوتي، في عام 2023، يدركان أن زيارتهما إلى مصر ستكشف لهما عن إرث تاريخي يمتد من الجد إلى أحفاد الأحفاد. لقد قدّمتا لنا هدية توثق خطوات التشييد والإنجاز، وهي الخطابات الخاصة من الجد "بوتي" إلى عمه، التي حملت الكثير من المشاعر والحكايات اليومية، وبداية كتابة تاريخ المتحف اليوناني الروماني على أرض الإسكندرية.
وفي السياق، قالت الدكتورة شيرين كمال عز الدين، أمين المتحف وحاملة الدكتوراه في الآثار المصرية لـ"الدستور" إن زيارة أحفاد بوتي "كلارا" و"باولا" إلى الإسكندرية كانت ذات قيمة كبيرة.
وعبروا عن شعورهم بالفخر والاعتزاز بأن جدهم هو مؤسس هذا الصرح التاريخي الأثري الهام، كما حرصوا على عدم مغادرة الإسكندرية قبل زيارة مقبرته في المقابر اللاتينية، والبحث عن عنوان منزله، حيث أثار فضولهم معرفة كيف كانت حياة جدهم "بوتي"، صاحب هذا الإنجاز العظيم.
وللمرة الأولى، شاركت الدكتورة شيرين عز الدين "الدستور" خطابات "بوتي"، مؤسس المتحف اليوناني الروماني، والتي تُحفظ الآن على سبيل الإعارة في صندوق خشبي يُعرف بـ "الأرشيف في أرشيف علم المصريات الشخصي لجوزيب بوتي" في جامعة ميلانو.
خطاب البداية: رحلة "بوتي" من إيطاليا إلى مصر في 1879
كتبت الخطابات بخط اليد، وتروي بداية الرحلة لطالب إيطالي، ظن أن رحلته التي امتزجت بين الأمل واليأس والانتصار ستكون شخصية فقط، دون أن يدرك أنها ستكون جزءًا هامًا من التاريخ.
بدأت علاقة "بوتي" بالآثار خلال دراسته في مدينة مودينا الإيطالية، في كلية الآداب بجامعة بولونيا، حيث مارس النشاط المتحفي في المتحف المدني في مودينا.
تغير مسار حياة "بوتي" في 15 يونيو 1879 عندما غادر إلى مصر في سن 26 عامًا، معبرًا في خطابات له عن شعوره: "أغادر اليوم واذهب حيث يناديني الشرف والعلم ينتظرني".
كان "بوتي" يروي لعمه تفاصيل يومياته في القاهرة الجديدة، محاولًا إيجاد الأنس في أول أيام غربته بعيدًا عن إيطاليا. ذكر في إحدى رسائله أنه في القاهرة منذ 24 ساعة، ووصف المآذن المتلألئة وإطلاق المدفع للإشارة إلى نهاية الصيام في رمضان، ليعكس حزنه لفراق إيطاليا قائلاً: "لن أخبرك بحزن عن وداع إيطاليا التي تلاشت سواحلها في زرقة البحر".
وبتوقيت التاسعة صباحًا، أُبلغ عن منارة الإسكندرية، ليشهد القليل من المدينة التي ستخلد اسمه لاحقًا. انطلق بالقطار إلى القاهرة في رحلة استغرقت 4 ساعات و40 دقيقة، ولم يكن يعلم أن هذه المدينة ستؤثر في تخليد اسم "بوتي" في التاريخ إلى يومنا هذا.
خطاب الإنجاز: "بوتي" يحكي كواليس إنشاء المتحف اليوناني الروماني
رغب "بوتي" في توثيق ما يجول في صدره على ورق، حيث كتب أن ليس إيطاليا هي التي أسست متحفًا في الإسكندرية، بل هو الذي أنشأه ويديره ويجعله ينمو بتضحياته، مشيرًا إلى أنه "ابنه الأول".
تدرج "بوتي" في المناصب وعمله في الآثار، مُشيرًا في خطابه بتاريخ 3 فبراير 1880 إلى أنه تم إسناد جميع النقوشات والرسومات التي أجريت في إثيوبيا إليه من قبل "فاسالي بك"، عالم المصريات الإيطالي ومدير المتحف المصري آنذاك. وأكد أنه سيبقى في القاهرة للاستفادة من الوثائق والآثار الثمينة التي تم جمعها في متحف بولاق.
الخطاب التحضيري من يوسف معلم "بوتي"
كانت كل تلك الخطوات بمثابة التحضير التمهيدي للإنجاز الكبير، على الرغم من رغبته في الهروب من القاهرة بسبب الحرارة الشديدة، متخيلًا مشهد "ليفيزيانو" والتلال المغطاة بالثلوج، لكن انشغالاته الكثيرة حالت دون عودته المؤقتة إلى إيطاليا.
في خطابٍ كتب في أبريل 1880، سرد "بوتي" أنه لن يستطيع السفر إلى إيطاليا بسبب انشغاله بدراسة اللغة العربية والفرنسية والقبطية والهيروغليفية. وكان هذا الخطاب هو الأول الذي يسجل توقيعه باللغة العربية باسم "يوسف معلم".
لتظهر الإسكندرية مجددًا في حياته مع الإعلان عن زواجه من امرأة شابة تُدعى "فيتورينا"، من عائلة جيدة ذات أصول كورسيكية. أقام حفل الزواج في القاهرة في 3 سبتمبر 1881، ثم انتقل إلى الإسكندرية لقضاء شهر العسل، ورغم عودته لاحقًا إلى القاهرة، إلا أن الإسكندرية ظلت تشكل المحطة الأهم في حياته.
ليتلقي "بوتي" وعدًا جديدًا في أكتوبر 1881 بإلحاقه بمتحف بولاق، موثقًا زيارته للمومياوات الملكية التي تم العثور عليها هذا الصيف بالقرب من طيبة بعد اكتشافها في 15 سبتمبر 1881.
ويُعتبر هذا الحدث جزءًا من التاريخ، حيث يتزامن مع موكب المومياوات الملكية الذي تم نقله في احتفال ضخم بتاريخ 3 أبريل 2021 من المتحف المصري بالتحرير إلى المتحف القومي للحضارة.
تكتمل الخطابات بخطاب يوضح أن "بوتي" اضطر للعودة إلى إيطاليا في رحلة استمرت من مارس 1882 حتى 1891، ثم عاد مجددًا إلى الإسكندرية ليُعيَّن في المدرسة الإيطالية بالإسكندرية، مدرسة الدون بوسكو.
خطاب الفخر: بداية تأسيس المتحف اليوناني الروماني
تواصل الدكتورة شيرين عز الدين، أمين المتحف، بالإشارة إلى أن هذا هو بداية الفصل الثالث من حياة "بوتي" مع تأسيس المتحف اليوناني الروماني. وقد صرح بأنه لم يعد في خدمة الحكومة الإيطالية، بل في خدمة خديوية مصر، مشيرًا إلى أنه "يقاتل ويجتهد ليس لتقديم الشرف لبلدي أو لمودينا الطيبة التي أتيت منها، ولكنها لم تعد تعرفني".
رغب "بوتي" في توثيق مشاعره في خطابات إلى ابن عمه، حيث نجح في الاحتفاظ بما وراء التاريخ، كاشفًا أن إيطاليا ليست هي التي أسست متحفًا في الإسكندرية، بل أخوه هو الذي أنشأه ويعمل على تطويره بتضحياته. كان هدفه جذب فئة كبيرة من الجمهور والعلماء لمشاهدة الآثار المجمعة في الإسكندرية التي تمثل تاريخ المدينة من خلال النقوش والمنحوتات والتماثيل الجنائزية.
افتخر "بوتي" في خطاباته بأنه بلغ الأربعين من عمره ويعيش حياة نشطة للغاية، مسرورًا بذكر شؤونه في أوروبا. وأعلن عن افتتاح المتحف للجمهور في اليوم الأول من شهر نوفمبر، موضحًا تفاصيل توافد عدد كبير من الزوار، حيث ارتفع العدد في 5 نوفمبر إلى 263 زائرًا.
مشاعر "بوتي" تجاه المتحف اليوناني الروماني
"أعيش بين الحفر والدفن" كانت تلك العبارة ملخصًا لحياة "بوتي"، حيث عبر عن رغبته في إعادة تاريخ هذه الإسكندرية العزيزة التي تمنحه الشهرة والرزق لعائلته، وبمشاعر صادقة، يسأل: “هل تعتقد أن لدي ثلاثة أطفال؟ لدي أربعة. الأول منهم هو المتحف اليوناني الروماني في الإسكندرية، وهو أكثر ما أحبه لأنني قمت ببنائه مرتين”.
ومع ذلك، كانت إيطاليا لا تزال تسكن في جزء من قلبه، ليأخذه الحنين ويكمل: “سيأتي يوم وسأعود إلى إيطاليا لأصبح أستاذًا جامعيًا، وسأموت في بلدتي مودينا، محل مسقطي، بدلاً من أن أنتهي بين الرهبان في المقبرة اللاتينية”، لكنه لم يكن يدري ما إذا كانت هذه الرغبة ستتحقق.
بين خطاب وآخر، تغيرت رغبته، معبرًا بفخر أن هذا المتحف الجميل هو من صنعه بالكامل كان يعتقد أنه يُكرّم بلده، لكنه أدرك لاحقًا أن الأمر ليس كذلك.
وأصبح اليوم يفضل أن يموت في الإسكندرية، حيث لا يتم تجاهله، وسط المتحف الذي سيرتبط اسمه به لفترة طويلة.
كانت أمنيته، كما عبر، أن يكون قد قدم خدمات جادة للعلم ولهذا البلد المضياف الذي منحته منصبًا وأوسمة شرف ووسيلة للدراسة.
مراحل توسعه المتحف اليوناني الروماني
يشرح "بوتي" مراحل توسعة المتحف في خطابه الجديد لعمه قائلاً: "ستتمكن من رؤية واجهة المتحف التي تمكنت من إنشائها، والتي يتم بناء غرفتين جديدتين لها. وفي واجهة المتحف اليوناني الروماني، يوجد تمثال كبير لثور شهير".
وذكر "بوتي" في خطابه بتاريخ 22 فبراير 1899 أن هذا التمثال هو "ثور هادريان" الذي عُثر عليه عام 1895، ووصفه بأنه تحفة حقيقية، مصنوعة من الجرانيت الأسود بطول مترين، وهو معروض ضمن مقتنيات المتحف حتى اليوم."
الخطاب الاخير 1904
ظل "بوتي" يطوّر مبنى المتحف اليوناني الروماني، لكن الخطابات انتهت، وكان آخر خطاب ليس منه بل من ابنته بتاريخ 29 فبراير 1904.
تحكي ابنته أن اسم عائلة "بوتي" حاز احتراماً كبيراً في مصر، وأكملت بخط يدها: “لقد ترك أبي شهرة كبيرة، والجميع يتذكره باحترام وفخر، أعماله مطلوبة في جميع أنحاء أوروبا، وقد تحققت رغبته في أن يُدفن في المقبرة اللاتينية بالإسكندرية، حيث لا يزال يرقد هناك حتى اليوم، كان آخر زائريه من أحفاده، كلارا وباولا، خلال رحلتهما الخاصة إلى الإسكندرية في الذكرى الـ132 لافتتاح المتحف اليوناني الروماني”.
اقرا أيضا
0 تعليق